يوم آخر من أيام أيار ... و لكنه ليس يوما عاديا ... يوم كره أن يأتي كما يأتي إخوته من أيام الربيع الباسمة ... و أبى إلا أن يأتي عابسا غاضبا كأيام الشتاء ...
رياح قوية هوجاء راحت تعبث بالأغصان الغضة الفتية التي لم تولد إلا منذ أيام قليلة فقط .... و لا قبل لها بعد بمواجهة غضب الرياح و هياجها ... فأحنت هذه الأغصان سوقها و أمالت رؤوسها خاضعة لسلطة الرياح و خائفة من جبروتها ... و كأن الرياح قد اغترت بقوتها و فرحت بسطوتها فراحت تزأر و تزمجر هازئة بكل ما حولها من المخلوقات ... حتى من شمس الربيع التي كانت منذ أيام تنير الوجوه و تدفئ القلوب ... و التي باتت اليوم حبيسة جدران صماء رمادية من الغيوم الكثيفة المتجمعة ... فتبدل ضياء الشمس و تغير لونه بعد أن لقي ما لاقاه من حقد الغيوم و تكالبها عليه...
و اكتمل المشهد و لم يعد ينقصه إلا شارة البدء ... و خيم الصمت الذي طالما كان سابقا للعاصفة ...
و جاءت الإشارة ... لمعت السماء بضوء فضي ساطع سرعان ما شد إليه الأنظار و سرعان ما اختفى ... و انكسر جدار الصمت بصوت أصم الآذان و هز القلوب ...
و بدأ العرض ..... حبال من المطر تربط الأرض بالسماء ... و تصل حقد الغيوم بطيبة الزرع ...
تركت النافذة و خرجت إلى الشرفة لأشاهد عرض الطبيعة بصورة أفضل ...
قفزت بعض قطرات المطر و امتطت جناح الريح و جاءت إلي فأصابت وجهي ... و سالت على خدي كما تسيل الدموع فحركت في نفسي شعورا غريبا عميقا مبهما ... ليس كشعوري عند سيلان الدمع من عيني أبدا ... مع أن ماء المطر و ماء العين لا يختلف تركيبهما اختلافا كبيرا ... و لكن المشاعر التي تتركها تختلف كثيرا ...
نظرت إلى الشارع لعلي أعرف في وجوه المارة فيه -و ما أقلهم- شيئا من حقيقة هذا الشعور الغريب ... و أحسست أني بت قادرا على قراءة أفكار الناس و معرفة كل ما يعتمل في أنفسهم ...
ترى بما يفكر هذا الرجل المتأنق الذي يمشي مسرعا و مظلته في يده ...
- ( منيح إني جبت معي الشمسية ... لأنو هالمنخفض هاد منخفض قطبي المنشأ شديد الفعالية يترافق برياح غربية إلى شمالية غربية متوسطة السرعة ... و البحر شديد إلى متوسط ارتفاع الموج و الرؤية جيدة ... هيك قالوا بالنشرة الجوية ... و العلم بهالأيام قلما يخطئ ...)
- و هذا الشاب الذي يركض تحت المطر و على وجهه أمارات السخط و الغضب يا ترى ماذا يدور في خلده ...
- ( شو هالحالة هي ... انتزعوا شعراتي ... يا ريتني لبست طاقية أو جبت شمسية معي من البيت )
– و هذان المتحابان اللذان يتمشيان تحت المطر و قد تقاربت أجسادهما و تلامست أيديهما تحت مظلة واحدة ... ماذا يفكران...
- ( إن شا الله يضل المطر عم ينزل ... حتى نضل هيك لازقين ببعضنا ... ) و خلا الشارع من المارة و ظللت وحيدا أرقب هطول المطر المستمر ... و ذاك الشعور الغريب يزداد في نفسي شيئا فشيئا و يتجمع فيها كما تتجمع قطرات المطر في هذه البركة الصغيرة المتشكلة على حافة الرصيف ...
و هممت بالدخول إلى غرفتي ... و نظرت إلى الشارع نظرة أخيرة ... فرأيت شيئا عجبا ...
امرأة عجوز ... رافعة يديها إلى السماء و متوجهة بقلبها إلى الله و لسانها يتحرك بالدعاء و التسبيح ... و ماء المطر يهطل على وجهها و يختلط بدموع الخشوع و الخشية فيسيلان معا على هذا الوجه النوراني الرائع ...
و كأنما وصلت مشاعري في تلك اللحظة إلى العتبة التي يستطيع عقلي أن يدركها فراح لساني ينطق و قلبي يصدق على ما يقول :
سبحان الذي يسبح الرعد بحمده و الملائكة من خيفته ...
اللهم إني أسألك من خير هذه الريح و خير ما أرسلت به .... و أعوذ بك من شرها و شر ما أرسلت إليه ... اللهم اجعلها رحمة و لا تجعلها عذابا ... اللهم اجعلها رياحا و لا تجعلها ريحا ...
لا إله إلا الله يفعل ما يريد ... اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني و نحن الفقراء .... أنزل علينا الغيث ... و اجعل ما أنزلت لنا قوة و بلاغا إلى حين ...
:o
or
Just Forget

- Login to post comments
مرحبا
بدأت أشك بأنك طالب آداب قسم اللغة العربية، لأنو ما شاء الله على هالأسلوب الأدبي الرائع الذي يفتقده الكثير من طلبة الأقسام العلمية، مشاركاتك في هذا المنتدى المكتوبة باللغة العربية الفصحى الممزوجة ببعض الكلمات العامية الخفيفة أعادت إلينا الثقة بأن اللغة العربية
مازالت قادرة على إمتاعنا بمفرداتها اللماعة، أنا لا أنكر أن اللغة الإنكليزية باتت لغة العصر ولكن لا مانع من أن نتقن العربية مثل الإنكليزية.
سلام
شو هاد أخي نائل عم يطلع معك والله
حاسس حالي قاعد قدام شي كاتب أو أديب
روح ولا يهمك شايفلك
حسناً : الأصل في الأديب أن لايكون طالباً أو خريجاً من كلية الآداب!!
وإنما الأصل به أن يكون ممن يحملون هماً أو يملكون إحساساً, الأصل به أن يكون ممن تثور بهم الهمة غيرة على دينهم أو وطنهم, الأصل به أن يكون عاشقاً, الأصل به أن يكون حكيماً..
حكيماً؟؟؟؟
حكيماً!!
نعم الأصل به أن يكون حكيماً (أي نحن, أو ماينبغي أن نكونه..), ولطالما علّق الأخوة على مشاركات الموهبين من طلاب الكلية بقولهم :
" الله يلعن أبو هالكلية شو بتقتل المواهب "
وكأنهم يريدون القول بأن طالب الطب الذي ينبغي أنه يمثل أحد الذرى الهامة في جبال المجتمع, يحمل بداخله العناصر الأولية التي تلزم لإيقاد أدبٍ فعال ولكن طاحونة المحاضرات الطويلة .. والعديدة.. والشاقة.. والعنيدة, بالإضافة إلى حضورها, ودوراتها, وإضافاتها, والتعليقات عليها, والقسم العملي منها, والدوخات السبع التي يريد محاضروها أن ندخلها, كل ذلك يحول دون استغلال هذه العناصر الأولية, وياللأسف..
لذا, ودون الإطالة - ففي قلبي فيض غزير من النقمة على هذا الحال – أدعو كل من يجد في نفسه قضيةً, أو هماً, أو مشروع أمة, أو حتى فرد.. أن يحمل قلمه و يمضي..
ومهما حاول طالب الآداب أن يصف تأوهاتك فلن يحن لها قلب بشر كما سيحن للآه بصوتك ياصاحبها..
ولن يكون قادراً على رسم ملامح الطريق للأمة كما يستطيع أن يفعل...
الحكيم..
Saggio ( حكيم (بالإيطالية!))
أذكر قولاً لأستاذ لي: " المطر رحمة من الله، فعند نزوله انتهز الفرصة وارفع يديك إلى السماء عسى الله - ببركة المطر - أن يجيب دعاءك"
ومن وقتها، كلما نزل المطر، أنظر إلى الناس وهم يهربون ليلتجؤوا لمكان بعيد عن المطر، فأبتسم وأقول: عجباً أوَيهرب أحد من رحمة الله. بل وإني أحب أن أتمشى تحت المطر لأستشعر الرحمة المنزلة مع قطرات المطر.
فجزاك الله خيراً أخي نائل على كلماتك العطرة.
من الغريب أني لم أرد على هكذا مشاركة رائعة
............... ولأنها حركت في نفسي ماحركت ولأنها تستحق أن تقرأ مرات ومرات
ولكنني أحببت ان أحييها لأني أحب المطر كثيرا وقد اشتقت له
شكرا لك ياأخي نائل
ولا تنسانا من دعائك عندما ترى هطول المطر فانها من لحظات الاجابة كما قلت
والله تعالى أعلم
ما شاء الله على هالموهبة د.نائل:
يعني بخاف إذا حكيت أن أقصر في وصف هذه الموهبة الرائعة،شي كتير حلو وتسلم إيديك.
أنا كتير بحب هدا النمط من الأدب،الله يفتحها عليك وتكترلنا من هالكتابات.
الشكر الأول لصديقي نائل صاحب القلم الذهبي الذي اذاما لامس الورق المقفر أصبح مزهراً
وكن واثقاً أنك اذا استمررت في الكتابة ستكون رافعي عصرك أو بديع زمانك .
الشكر الثاني الزميل HAWK الذي بعث هذه المشاركة من منتداها .
I am touched again with the delicate and unique style of your writings. It brings a lot of memories from the days I used to sit and write. I lost the time and lost talent. But I least I enjoyed your letters -my friend Nael- so much.
Please don't stop enriching our Muntada with such participations.
تعد هذه المشاركة متواضعة أمام مشاركاته الأخرى عودوا فاقرؤوا ، وتمتعوا .
شكرا لكم جميعا مرة ثانية على كلماتكم اللطيفة ...
و أشكر الزميل Hawk الذي أعاد لي ذكرى ذلك اليوم الربيعي المطير
و أدعو الله أن يوفقنا جميعا للمزيد من الخير
رائعة بكل معنى الكلمة
ننتظر المزيد من هذه الكتابة الراقية
<<<
كنت أسمع زخات المطر وأنا أقرؤها ... رائعة من روائع مبدعي حكيم القدماء دكتور نائل , سهل الله أموره -هو والبقية- أينما كانوا ,
أحببت أن أعرضها على من لا يعرفها لكي يدرك شيئاً واحداً :
حكيم أهلاً بعودتك مع أعضاء يعلون من شأنك كما فعل أسلافهم
آمل أن نستمتع بمشاركات من مثل هذا المستوى الراقي في حكيمنا اليوم و غداً ................ إلى ما شاء الله
عطرنا بهذه المقالات الرائعة التي فيها نرى مشهداً طبيعياً أمام أنظارنا.
ماشاء الله تبارك الله.
وفقك الله لما يحبه ويرضاه.
الله يوفق dr_nael وين ما كان
حدا بيعرف شي عنو؟؟؟
بصراحة وبكل صدق لا ابالغ ان قلت لك اني اتمنى البكاء بسبب مااثارته مقالتك من مشاعر وهيجت لي من ذكريات تربت يداك على هذا الإبداع
كلام رائع و معبر
لا يوجد أجمل من المشي تحت زخات المطر
ما شاء الله على هذا الأسلوب الرائع ..


فعلاً روووعة
ما شاء الله قوة في الطرح و أسلوب فنان مبدع ..!
حفظك الله ..
روووووووووح شو هيدا
رائعة ..
سبحان من أنزل الأمطار سبحانا
لم يخلق الخلق الا كان رحمانا
لم ينزل الغيث الا كي يذكرنا
والروح أظمأ ما في الجسم بنيانا
سبحان من سبح الرعد العظيم به
ومن تلألأ في الأجواء ..خشيانا
ومن تخرّ جبال ٌ من مخافته
ومن تكون له الأكوان أكوانا
....لا شيء غيرك يا انسان تجهله
فارجع اليه و رو ّ القلب ايمانا